فصل: تفسير الآيات (67- 69):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (65- 66):

{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)}
{وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} تكذيبهم وتهديدهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك {إِنَّ العزة} استئناف بمعنى التعليل كأنه قيل: مالي لا أحزن؟ فقيل: إن العزة {لِلَّهِ} إن الغلبة والقهر في ملكة الله جميعاً لا يملك أحد شيئاً منهما، لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم وينصرك عليهم {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21] {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] أو به يتعزز كل عزيز فهو يعزك ودينك وأهلك، والوقف لازم على {قولهم} لئلا يصير {إن العزة} مقول الكفار {جَمِيعاً} حال {هُوَ السميع} لما يقولون {العليم} بما يدبرون ويعزمون عليه وهو مكافئهم بذلك {أَلا إِنَّ للَّهِ مَن في السماوات وَمَنْ في الأرض} يعني العقلاء وهم الملائكة والثقلان، وخصهم ليؤذن أن هؤلاء إذا كانوا له وفي مَلكَته ولا يصلح أحد منهم للربوبية ولا أن يكون شريكاً له فيها، فما وراءهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون له نداً وشريكاً {وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَاء} {ما} نافية أي وما يتبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يسمونها شركاء لأن شركة الله في الربوبية محال {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} إلا ظنهم أنهم شركاء الله {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يحزرون ويقدّرون أن تكون شركاء تقديراً باطلاً، أو استفهامية أي وأي شيء يتبعون و{شركاء} على هذا نصب ب {يدعون} وعلى الأول ب {يتبع} وكان حقه وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء، فاقتصر على أحدهما للدلالة والمحذوف مفعول {يدعون} أو موصولة معطوفة على {من} كأنه قيل: ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي وله شركاؤهم.
ثم نبه على عظيم قدرته وشمول نعمته على عباده بقوله:

.تفسير الآيات (67- 69):

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)}
{هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} أي جعل لكم الليل مظلماً لتستريحوا فيه من تعب التردد في النهار {والنهار مُبْصِراً} مضيئاً لتبصروا فيه مطالب أرزاقكم ومكاسبكم {إِنَّ في ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع مذكر معتبر {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سبحانه} تنزيه له عن اتخاذ الولد وتعجب من كلمتهم الحمقاء {هُوَ الغني} علة لنفي الولد لأنه إنما يطلب الولد ضعيف ليتقوى به، أو فقير ليستعين به، أو ذليل ليتشرف به، والكل أمارة الحاجة فمن كان غنياً غير محتاج كان الولد عنه منفياً، ولأن الولد بعض الوالد فيستدعي أن يكون مركباً، وكل مركب ممكن، وكل ممكن يحتاج إلى الغير فكان حادثاً فاستحال القديم أن يكون له ولد {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} ملكاً ولا تجتمع النبوة معه {إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا} ما عندكم من حجة بهذا القول، والباء حقها أن تتعلق بقوله {إن عندكم} على أن يجعل القول مكانا ل {سلطان} كقولك: (ما عندكم بأرضكم موز) كأنه قيل: إن عندكم فيما تقولون سلطان، ولما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين فقال: {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} بإضافة الولد إليه {لاَ يُفْلِحُونَ} لا ينجون من النار ولا يفوزون بالجنة.

.تفسير الآيات (70- 72):

{مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)}
{متاع في الدنيا} أي افتراؤهم هذا منفعة قليلة في الدنيا حيث يقيمون به رياستهم في الكفر ومناصبة النبي صلى الله عليه وسلم بالتظاهر به {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد} المخلد.
{بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} بكفرهم.
{واتل عَلَيْهِمْ} واقرأ عليهم {نَبَأَ نُوحٍ} خبره مع قومه والوقف عليه لازم إذ لو وصل لصار {إذ} ظرفا لقوله {واتل} بل التقدير واذكر {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقوم إن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ} عظم وثقل كقوله {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] {مَّقَامِى} مكاني يعني نفسه كقوله {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] أي خاف ربه، أو قيامي ومكثي بين أظهركم ألف سنة إلا خمسين عاماً، أو مقامي {وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ الله} هم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ليكون مكانهم بينًا وكلامهم مسموعاً {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} أي فوضت أمري إليه {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ} من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه {وَشُرَكَاءكُمْ} الواو بمعنى {مع} أي فأجمعوا أمركم مع شركائكم {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي غماً عليكم وهما والغم والغمة كالكرب والكربة، أو ملتبساً في خفية. والغمة السترة من غمه إذا ستره ومنه الحديث: «لاغمة في فرائض الله» أي لا تستر ولكن يجاهر بها، والمعنى ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستوراً عليكم ولكن مكشوفاً مشهوراً تجاهرونني به {ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ} ذلك الأمر الذي تريدون بي أي أدوا إلى ما هو حق عندكم من هلاكي كما يقضي الرجل غريمه، أو اصنعوا ما أمكنكم {وَلاَ تُنظِرُونَ} ولا تمهلوني {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} فإن أعرضتم عن تذكيري ونصحي {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} فأوجب التولي، أو فما سألتكم من أجر ففاتني ذلك بتوليكم {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة أي ما نصحتكم إلا لله لا لغرض من أغراض، الدنيا وفيه دلالة منع أخذ الأجر على تعليم القرآن والعلم الديني {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} من المستسلمين لأوامره ونواهيه {إن أجري} بالفتح: مدني وشامي وأبو عمرو وحفص.

.تفسير الآيات (73- 76):

{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)}
{فَكَذَّبُوهُ} فداموا على تكذيبه {فنجيناه} من الغرق {وَمَن مَّعَهُ في الفلك} في السفينة {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} يخلفون الهالكين بالغرق {وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بآياتنا فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} هو تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثله وتسلية له.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ} من بعد نوح عليه السلام {رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} أي هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعباً {فَجَآءُوهُم بالبينات} بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} فأصروا على الكفر بعد المجيء {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} من قبل مجيئهم، يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها كأن لم يبعث إليهم أحد {كَذَلِكَ نَطْبَعُ} من ذلك الطبع نختم {على قُلوبِ المعتدين} المجاوزين الحد في التكذيب {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم} من بعد الرسل {موسى وهارون إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ بئاياتنا} بالآيات التسع {فاستكبروا} عن قبولها وأعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها ويتعظموا عن قبولها {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} كفاراً ذوي آثام عظام فلذلك استكبروا عنها واجترؤوا على ردها {فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا} فلما عرفوا أنه هو الحق وأنه من عند الله {قَالُواْ} لحبهم الشهوات {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} وهم يعلمون أن الحق أبعد شيء من السحر.

.تفسير الآيات (77- 83):

{قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)}
{قَالَ موسى أَتقُولُونَ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءكُمْ} هو إنكار ومقولهم محذوف أي هذا سحر، ثم استأنف إنكاراً آخر فقال: {أَسِحْرٌ هذا} خبر ومبتدأ {وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} أي لا يظفر.
{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} لتصرفنا {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} من عبادة الأصنام أو عبادة فرعون {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء} أي الملك لأن الملوك موصوفون بالكبرياء والعظمة والعلو {فِى الأرض} أرض مصر {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} بمصدقين فيما جئتما به {ويكن} حماد ويحيى {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتونى بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ} {سحار} حمزة وعلي {فَلَمَّا جَاء السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقُواْ قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} {ما} موصولة واقعة مبتدأ، أو {جئتم به} صلتها و{السحر} خبر أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله. {آلسحر} بعد وقف: أبو عمرو على الاستفهام، فعلى هذه القراءة {ما} استفهامية أيْ أيّ شيء جئتم به أهو السحر {إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} يظهر بطلانه {إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} لايثبته بل يدمره {وَيُحِقُّ الله الحق} ويثبّته {بكلماته} بأوامره وقضاياه أو يظهر الإسلام بعداته بالنصرة {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} ذلك {فَمَا ءامَنَ لموسى} في أول أوامره {إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ} إلا طائفة من ذراري بني إسرائيل كأنه قيل: إلا أولاد من أولاد قومه، وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف، أو الضمير في {قومه} لفرعون والذرية مؤمن آل فرعون وآسية امرأته وخازنه وامرأة خازنة وماشطته والضمير في {وَملإيهِمْ} يرجع إلى فرعون بمعنى آل فرعون كما يقال ربيعة ومضر، أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له، أو إلى الذرية أي على خوف من فرعون وخوف من أشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون عليهم وعلى أنفسهم دليله قوله {أَن يَفْتِنَهُمْ} يريد أن يعذبهم فرعون {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض} لغالب فيها قاهر {وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} في الظلم والفساد وفي الكبر والعتو بادعائه الربوبية.

.تفسير الآيات (84- 87):

{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)}
{وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بالله} صدقتم به وبآياته {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ} فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون {إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ} شرط في التوكل الإسلام وهو أن يسلموا نفوسهم لله أي يجعلوها له سالمة خالصة لا حظ للشيطان فيها، لأن التوكل لا يكون مع التخليط {فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا} إنما قالوا ذلك لأن القوم كانوا مخلصين، لاجرم أن الله قبل توكلهم وأجاب دعاءهم ونجاهم، وأهلك من كانوا يخافونه وجعلهم خلفاء في أرضه، فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين} موضع فتنة لهم أي عذاب يعذبوننا أو يفتنوننا عن ديننا أي يضلوننا والفاتن المضل عن الحق {وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} أي من تعذيبهم وتسخيرهم {وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} تبوأ المكان اتخذه مباءة كقوله (توطنه) إذا اتخذه وطناً، والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته مباءة لقومكما ومرجعاً يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه {واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة وكانوا في أول الأمر مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المسلمون على ذلك في أول الإسلام بمكة {وَأَقِيمُواْ الصلاوة} في بيوتكم حتى تأمنوا {وَبَشّرِ المؤمنين} يا موسى، ثنى الخطاب أولاً ثم جمع ثم وحد آخراً لأن اختيار مواضع العبادة مما يفوض إلى الأنبياء، ثم جمع لأن اتخاذ المساجد والصلاة فيها واجب على الجمهور، وخص موسى عليه السلام بالبشارة تعظيماً لها وللمبشر بها.

.تفسير الآيات (88- 89):

{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)}
{وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً} هو ما يتزين به من لباس أو حلي أو فرش أو أثاث أو غير ذلك {وَأَمْوَالاً} أي نقداً ونعماً وضيعة {في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك} ليضلوا الناس عن طاعتك كوفي ولا وقف على {الدنيا} لأن قوله {ليضلوا} متعلق ب {آتيت} و{ربنا} تكرار. الأول للإلحاح في التضرع. قال الشيخ أبو منصور رحمه الله: إذا علم منهم أنهم يضلون الناس عن سبيله آتاهم ما آتاهم ليضلوا عن سبيله وهو كقوله {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران: 178] فتكون الآية حجة على المعتزلة {رَبَّنَا اطمس على أموالهم} أي أهلكها وأذهب آثارها لأنهم يستعينون بنعمتك على معصيتك، والطمس المحو والهلاك. قيل: صارت دراهمهم ودنانيرهم حجارة كهيئاتها منقوشة. وقيل وسائر أموالهم كذلك {واشدد على قُلُوبِهِمْ} اطبع على قلوبهم واجعلها قاسية {فَلاَ يُؤْمِنُواْ} جواب الدعاء الذي هو اشدد {حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} إلى أن يروا العذاب الأليم وكان كذلك، فإنهم لم يؤمنوا إلى الغرق، وكان ذلك إيمان يأس فلم يقبل. وإنما دعا عليهم بهذا لما أيس من إيمانهم وعلم بالوحي أنهم لا يؤمنون، فأما قبل أن يعلم بأنهم لا يؤمنون فلا يسع له أن يدعو بهذا الدعاء لأنه أرسل إليهم ليدعوهم إلى الإيمان، وهو يدل على أن الدعاء على الغير بالموت على الكفر لا يكون كفراً {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} قيل كان موسى عليه السلام يدعو وهارون يؤمّن فثبت أن التأمين دعاء فكان إخفاؤه أولى، والمعنى أن كلمة واحدة مستجاب وما طلبتما كائن ولكن في وقته {فاستقيما} فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والتبليغ {وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} ولا تتبعان طريق الجهلة الذين لا يعلمون صدق الإجابة وحكمة الإمهال فقد كان بين الدعاء والإجابة أربعون سنة. {ولا تتبعان} بتخفيف النون وكسرها لالتقاء الساكنين تشبيها بنون التثنية: شامي، وخطأه بعضهم لأن النون الخفيفة واجبة السكون. وقيل: هو إخبار عما يكونان عليه وليس بنهي، أو هو حال وتقديره فاستقيما غير متبعين.

.تفسير الآيات (90- 91):

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)}
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر} هو دليل لنا على خلف الأفعال {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} فلحقهم. يقال: تبعته حتى أتبعته {بَغِيّاً} تطاولاً {وَعَدْوًا} ظلماً وانتصباً على الحال أو على المفعول له {حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق} ولا وقف عليه لأن {قَالَ ءامَنتُ} جواب {إذا}- {أَنَّهُ}- إنه حمزة وعلي على الاستئناف بدل من {آمنت} وبالفتح غيرهما على حذف الباء التي هي صلة الإيمان {لا إله إِلاَّ الذي ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إسراءيل وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد حيث قال: {آمنت} ثم قال: {وأنا من المسلمين} كرر فرعون المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصاً على القبول ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته وكانت المرة الواحدة تكفي في حالة الاختيار {الئان} أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك. قيل: قال ذلك حين ألجمه الغرق والعامل فيه أتؤمن {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} من الضالين المضلين عن الإيمان. روي أن جبريل عليه السلام أتاه بفتيا: ما قول الأميرفي عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه، فكتب فيه يقول أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعماءه أن يغرق في البحر فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل عليه السلام خطه فعرفه.